فصل: فصل (الابتداء بالمسجد عند دخول مكة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***


باب الاعتكاف

وهو في اللغة‏:‏ المقام والاحتباس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏سواء العاكف فيه والباد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وفي الشرع‏:‏ عبارة عن المقام في مكان مخصوص وهو المسجد بأوصاف مخصوصة من النية والصوم وغيرهما على ما يأتي إن شاء الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏الاعتكاف سنة مؤكدة‏)‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليه‏.‏ روى أبو هريرة وعائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله تعالى‏.‏ وعن الزهري أنه عليه الصلاة والسلام ما ترك الاعتكاف حتى قبض، وهو من أشرف الأعمال إذا كان عن إخلاص‏.‏ قال عطاء‏:‏ مثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم فيجلس على بابه ويقول‏:‏ لا أبرح حتى تقضى حاجتي، فكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول‏:‏ لا أبرح حتى يغفر لي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز أقل من يوم، وهذا في الواجب وهو المنذور باتفاق أصحابنا‏)‏ لأن الصوم من شرطه، ولا صوم أقل من يوم، فلا اعتكاف أقل من يوم ضرورة‏.‏ وكذلك النفل عند أبي حنيفة لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا اعتكاف إلا بالصوم»‏.‏ روته عائشة‏.‏ وعن أبي يوسف‏:‏ يجوز أكثر النهار اعتبارا للأكثر بالكل‏.‏ وعن محمد ساعة، لأن مبنى النفل على المسامحة، ألا ترى أنه يجوز التطوع قاعدا مع القدرة على القيام ولا كذلك الواجب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهو اللبث في مسجد جماعة مع الصوم والنية‏)‏ أما اللبث فلأنه ينبئ عنه، وأما كونه في مسجد جماعة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم عاكفون في المساجد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏

وقال حذيفة سمعت رسول الله e يقول‏:‏ «كل مسجد له إمام ومؤذن فإنه يعتكف فيه» وقال حذيفة‏:‏ لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة، ولأن المعتكف ينتظر الصلاة فيختص بمكان تؤدى فيه الجماعة، فكلما كان المسجد أعظم فالاعتكاف فيه أفضل‏.‏ وأما الصوم فلما تقدم، ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام ما اعتكف إلا صائما، والله تعالى شرعه لقوله‏:‏‏)‏ وأنتم عاكفون في المساجد ‏(‏ولم يبين كيفيته، فكان فعل النبي صلى الله عليه وسلم بيانا له، لأنه لو جاز بغير صوم لبينه عليه الصلاة والسلام قولا أو فعلا ولم ينقل فدل على أنه غير جائز‏.‏ وأما النية فلأنه عبادة فلا بد من النية لما تقدم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمرأة تعتكف في مسجد بيتها‏)‏ وهوالموضع الذي أعدته للصلاة ‏(‏ويشترط في حقها ما يشترط في حق الرجل في المسجد‏)‏ لأن الرجل لما كان اعتكافه في موضع صلاته وكانت صلاتها في بيتها أفضل كان اعتكافها فيه أفضل، قال صلى الله عليه «صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في مسجد بيتها، وصلاتها في مسجد بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها، وصلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في مسجد حيها، وبيوتهن خير لهن لو كن يعلمن» ولو اعتكفت في المسجد جاز لوجود شرائطه، ويكره لما روينا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان أو الجمعة‏)‏ لما روي عن عائشة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان، والحاجة‏:‏ بول أو غائط أو غسل جنابة، ولأنه لا بد من وقوعها ولا يمكن قضاؤها في المسجد فكان مستثنى ضرورة وأما الجمعة فلأنها من أهم الحوائج ولا بد من وقوعها، ولأنالاعتكاف تقرب إلى الله تعالى بترك المعاصي، وترك الجمعة معصية، فينافيه ويخرج قدر ما يمكنه أداء السنة قبلها‏.‏

وقيل‏:‏ قدر ست ركعات، يعني تحية المسجد أيضا، ويصلي بعدها أربعا أو ستا، ولو أطال المكث جاز، إلا أن الأولى العود إلى معتكفه لأنه عقده فيه فلا يؤديه في موضعين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن خرج لغير عذر ساعة فسد‏)‏ لوجود المنافي‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ لا يفسد حتى يكون أكثر النهار اعتبارا بالأكثر، ويكون أكله وشربه وبيعه وشراؤه وزواجه ورجعته بالمسجد، لأنه يحتاج إلى هذه الأشغال ويمكن قضاؤها في المسجد، ولأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له مأوى إلا المسجد، وكان يأكل ويشرب ويتحدث، والبيع والشراء حديث، لكن يكره حضور السلع المسجد لما فيه من شغل المسجد بها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويكره له الصمت‏)‏ لأنه من فعل المجوس، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن صوم الصمت‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يتكلم إلا بخير‏)‏ لأنه يكره لغير المعتكف وفي غير المسجد، فالمعتكف في المسجد أولى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويحرم عليه الوطء ودواعيه‏)‏ لقولهتعالى‏:‏ ‏{‏ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ فكانت المباشرة من محظورات الاعتكاف فيحرم الوطء، وكذا دواعيه وهو اللمس والقبلة والمباشرة كما في الحج، بخلاف الصوم لأن الإمساك ركنه فلا يتعدى إلى الدواعي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن جامع ليلا أو نهارا عامدا أو ناسيا بطل‏)‏ لما بينا أنه من محظوراته فيفسده كالإحرام، وكذا إذا أنزل بقبلة أو لمس لوجود معنى الجماع‏.‏ وأما النسيان فلأن الحالة مذكرة فلا يعذر بالنسيان كالحج بخلاف الصوم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام لزمته بلياليها متتابعة‏)‏ لأن ذكر جمع من الأيام ينتظم ما بإزائها من الليالي كما في قصة زكريا عليه السلام‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثلاثة أيام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ثلاث ليال‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 10‏]‏ والقصة واحدة، ويقال‏:‏ ما رأيتك منذ أيام، ويريد الليالي أيضا‏.‏ وأما التتابع فإن الاعتكاف يصح ليلا ونهارا، فكان الأصل فيه التتابع كما في الأيمان والإجارات، بخلاف الصوم إذا التزم أياما حيث لا يلزمه التتابع، لأن الأصل فيه التفريق، لأن الليل ليس محلا للصوم فلا يلزم إلا أن يشرطه ‏(‏ولو نوى النهار خاصة صدق‏)‏ لأنه نوى حقيقة كلامه، لأن اليوم عبارة عن بياض النهار‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويلزم بالشروع‏)‏ عند أبي حنيفة خلافا لهما بناء على أنه لا يجوز عنده إلا بالصوم فلا يجوز أقل من يوم، وعندهما يجوز وقد بيناه‏.‏

كتاب الحج

وهو في اللغة‏:‏ القصد إلى الشيء المعظم‏.‏ قال الشاعر‏:‏

يحجون سب الزبرقان المزعفرا ***

أي يقصدون عمامته‏.‏ وفي الشرع‏:‏ قصد موضع مخصوص، وهو البيت بصفة مخصوصة في وقت مخصوص بشرائط مخصوصة على ما يأتيك إن شاء الله تعالى، وهو فريضة محكمة يكفر جاحدها، وهو أحد أركان الإسلام ثبتت فرضيته بالكتاب، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏‏.‏ والسنة‏:‏ وهو قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «بني الإسلام على خمس»‏.‏ الحديث‏.‏ وقوله‏:‏ «وحجوا بيت ربكم»‏.‏ وعليه انعقد الإجماع، وسبب وجوبه البيت لإضافته إليه، ولهذا لا يتكرر لأن البيت لا يتكرر، ويجب على الفور‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من ملك زادا يبلغه إلى بيت الله تعالى ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا» وعن أبي حنيفة ما يدل عليه، فإنه قال‏:‏ من كان عنده ما يحج به ويريد التزويج يبدأ بالحج، ولأن الموت في السنة غير نادر، بخلاف وقت الصلاة فإن الموت فيه نادر، ولهذا كان التعجيل أفضل إجماعا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهو فريضة العمر، ولا يجب إلا مرة واحدة‏)‏ لما روي «أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله أفي كل عام‏؟‏ قال‏:‏ لا بل مرة واحدة»؛ ولأن السبب هو البيت ولا يتكرر، وعلى ذلك الإجماع‏.‏

قال‏:‏‏(‏على كل مسلم حر عاقل بالغ صحيح قادر على الزاد والراحلة، ونفقة ذهابه وإيابه فاضلا عن حوائجه الأصلية، ونفقة عياله إلى حين يعود، ويكون الطريق أمنا‏)‏ أما الإسلام، فلأن الكافر ليس أهلا لأداء العبادات‏.‏

وأما الحرية فلقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أيما عبد حج عشر حجج ثم أعتق فعليه حجة الإسلام، وأيما صبي حج عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام»؛ ولأن منافع بدن العبد لغيره فكان عاجزا، وإن أذن له مولاه لأنه كأنه أعاره منافع بدنه فلا يصير قادرا بالإعادة كالفقير لا يصير قادرا إذا أعاره غيره الزاد والراحلة‏.‏ وأما العقل والبلوغ فلأنهما شرط لصحة التكليف، ولما مر من الحديث‏.‏ وأما الصحة فلأنه لا قدرة دونها، والخلاف في الأعمى كما تقدم في الجمعة‏.‏ وقيل‏:‏ عندهما لا يجب عليه الحج، لأن البذل في القياد غالب في الجمعة نادر في الحج‏.‏ وأما القدرة على الزاد والراحلة، ونفقة ذهابه وإيابه فلا استطاعة دونها‏.‏ وسئل عليه الصلاة والسلام عن الاستطاعة‏؟‏ فقال‏:‏ «الزاد والراحلة»‏.‏

وهكذا فسره ابن عباس‏.‏ والراحلة‏:‏ أن يكتري شق محمل أو زاملة دون عقبة الليل والنهار، لأنه لا يكون قادرا إلا بالمشي فلم يكن قادرا على الراحلة‏.‏ وأما كونه فاضلا عن الحوائج الأصلية فلأنها مقدمة على حقوق الله تعالى، وكذا عن نفقة عياله لأنها مستحقة لهم، وحقوقهم مقدمة على حقوق الله تعالى لفقرهم وغناه، وكذا فاضلا عن قضاء ديونه لما بينا، وعن أبي يوسف‏:‏ ونفقة شهر بعد عوده إلى وطنه، وإن كانت له دار لا يسكنها وعبد لا يستخدمه يجب عليه أن يبيعهما في الحج، ولا بد من أمن الطريق لأنه لا يقدر على الوصول إلى المقصود دونه، وأهل مكة ومن حولها يجب عليهم إذا قدروا بغير راحلة لقدرتهم على الأداء بدون المشقة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تحج المرأة إلا بزوج أو محرم إذا كان سفرا‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام فما فوقها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها»‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تحج المرأة إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها»‏.‏ والمحرم‏:‏ كل من لا يحل له نكاحها على التأبيد لقرابة أو رضاع أو صهرية، والعبد والحر والمسلم والذمي سواء، إلا المجوسي الذي يعتقد إباحة نكاحها، والفاسق لأنه لا يحصل به المقصود، ولا بد فيه من العقل والبلوغ لعجز الصبي والمجنون عن الحفظ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ونفقة المحرم عليها‏)‏ لأنه محبوس لحقها، وذكر الطحاوي أنه لا يلزمها لأن المحرم شرط وليس عليها تحقيق الشروط، فإن لم يكن لها محرم لا يجب عليها لما بينا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتحج معه حجة الإسلام بغير إذن زوجها‏)‏ لأن حق الزوج لا يظهر مع الفرائض كالصوم والصلاة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ووقته شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ أي وقت الحج، وفسروه كما ذكرنا ‏(‏ويكره تقديم الإحرام عليها ويجوز‏)‏ أما الكراهية فلما فيه من تعرض الإحرام للفساد بطول المدة‏.‏ وأما الجواز فلأنه شرط للدخول في أفعال الحج عندنا، وتقدم الشرط على الوقت يجوز كما في تكبيرة الإحرام، إلا أنه لا يجوز تقديمها على أفعال الصلاة لاتصال القيام بها وأفعال الحج تتأخر عن الإحرام، ولا يفعل شيئا من أفعال الحج بعد الإحرام قبل أشهر الحج، ولو فعله لا يجزيه لوقوعه قبل وقته حتى لو أحرم في رمضان فطاف وسعى لا يجزيه عن الطواف الفرض، بخلاف طواف القدوم لأنه ليس من أفعال الحج حتى لا يجب على أهل مكة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمواقيت‏:‏ للعراقيين ذات عرق، وللشاميين الجحفة، وللمدنيين ذو الحليفة، وللنجديين قرن، ولليمنيين يلملم‏)‏ ويقال ألملم، لأنه صلى الله عليه وسلم وقّت هذه المواقيت وقال‏:‏ «هنّ لأهلهن ولمن مر بهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة»‏.‏ رواه ابن عباس، فلو أراد المدني دخول مكة من جهة العراق فوقته ذات عرق، وكذا في سائر المواقيت، ومن قصد مكة من طريق غير مسلوك أحرم إذا حاذى الميقات ‏(‏وإن قدم الإحرام عليها فهو أفضل‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ قال علي وابن مسعود‏:‏ وإتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله، ولأنه أشق على النفس فكان أفضل‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ الإحرام من مصره أفضل إذا ملك نفسه في إحرامه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز للأفاقي أن يتجاوزها إلا محرما إذا أراد دخول مكة‏)‏ سواء دخلها حاجا أو معتمرا أو تاجرا، لأن فائدة التأقيت هذا لأنه يجوز تقديم الإحرام عليها بالاتفاق، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يتجاوز أحد الميقات إلا محرما»‏.‏ ومن كان داخل الميقات فله أن يدخل مكة بغير إحرام لحاجته، لأنه يتكرر دخوله لحوائجه فيخرج في ذلك فصار كالمكي إذا خرج ثم دخل، بخلاف ما إذا دخل للحج لأنه لا يتكرر فإنه لا يكون في السنة إلا مرة فلا يخرج، وكذا لأداء العمرة لأنه التزمها لنفسه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن جاوزها الأفاقي بغير إحرام فعليه شاة‏)‏ لأنه منهي عنه لما مر من الحديث ‏(‏فإن عاد فأحرم منه سقط الدم، وإن أحرم بحجة أو عمرة ثم عاد إليه ملبيا سقط أيضا‏)‏ عند أبي حنيفة، وعندهما يسقط بمجرد العود، وعند زفر لا يسقط وإن لبى، لأن الجناية قد تقررت فلا ترتفع بالعود، كما إذا دفع من عرفات قبل الغروب ثم عاد بعده‏.‏ ولنا أنه استدرك الفائت قبل تقرر الجناية بالشروع في أفعال الحج فيسقط الدم، بخلاف الدفع من عرفات لأن الواجب استدامة الوقوف ولم يستدركه، ثم عندهما أظهر حق الميقات بنفس العود، لأن التلبية ليست بشرط في الابتداء حتى لو مر به محرما ساكتا جاز، وعنده أنه جنى بالتأخير عن الميقات، فيجب عليه قضاء حقه بإنشاء التلبية، فكان التدارك في العود ملبيا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو عاد بعدما استلم الحجر وشرع في الطواف لم يسقط‏)‏ بالاتفاق لأنه لم يعد على حكم الابتداء، وكذلك إن عاد بعد الوقوف لما بينا ‏(‏وإن جاوز الميقات لا يريد دخول مكة فلا شيء عليه‏)‏ لأنه إنما وجب عليه الإحرام لتعظيم مكة شرفها الله تعالى وما قبلها من القرى والبساتين غير واجب التعظيم، وإذا جاوز الميقات صار هو وصاحب المنزل سواء، فله دخول مكة بغير إحرام لما مر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن كان داخل الميقات فميقاته الحل‏)‏ الذي بين الميقات وبين الحرم لأنه أحرم من دويرة أهله ‏(‏ومن كان بمكة فوقته في الحج حرم، وفي العمرة الحل‏)‏ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه أن يحرموا بالحج من مكة، ولأن أداء الحج لا يتم إلا بعرفة وهي في الحل، فإذا أحرم بالحج من الحرم يقع نوع سفر، وأما العمرة فلأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر عبد الرحمن أخا عائشة أن يعتمر بها من التنعيم وهو في الحل، ولأن أداء العمرة بمكة فيخرج إلى الحل ليقع نوع سفر أيضا، ولو أحرم بها من أي موضع شاء من الحل جاز إلا أن التنعم أفضل لما روينا‏.‏

فصل ‏[‏ما يستحب للمحرم فعله‏]‏

‏(‏وإذا أراد أن يحرم يستحب له أن يقلم أظفاره، ويقص شاربه، ويحلق عانته‏)‏

وهو المتوارث، ولأنه أنظف للبدن فكان أحسن ‏(‏ثم يتوضأ أو يغتسل وهو أفضل‏)‏ لأنه صلى الله عليه وسلم اغتسل، ولأن المراد منه التنظيف، والغسل أبلغ؛ ولو اكتفى بالوضوء جاز كما في الجمعة، وتغتسل الحائض أيضا لما ذكرنا أنه للتنظيف ‏(‏ويلبس إزارا ورداء جديدين أبيضين وهو أفضل‏)‏ لأنه لا بد من ستر العورة ودفع الحر والبرد، والنبي عليه الصلاة والسلام اتزر وارتدى عند إحرامه، الجديدان أقرب إلى النظافة‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خير ثيابكم البيض»‏.‏ ‏(‏ولو لبس ثوبا واحدا يستر عورته جاز‏)‏ لحصول المقصود ‏(‏ويتطيب إن وجد‏)‏ قالت عائشة‏:‏ «كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم» وقال محمد‏:‏ لا يتطيب بما يبقى بعد الإحرام لأنه كالمستعمل له بعد الإحرام‏.‏ وجوابه ما روي عن عائشة أنها قالت‏:‏ فكأني أنظر إلى وبيص الطيب من مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة من إحرامه، والممنوع التطيب قصدا، وهذا تابع لا حكم له، وصار كما إذا حلق أو قلم أظفاره ثم أحرم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويصلي ركعتين‏)‏ لأنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بذي الحليفة عند إحرامه ‏(‏ويقول‏:‏ اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني‏)‏ لأنه أفعال متعددة مشقة يأتي بها في أماكن متباينة في أوقات مختلفة، فيسأل الله التيسير عليه ‏(‏وإن نوى بقلبه أجزأه‏)‏ لحصول المقصود والأول أولى، والأخرس يحرك لسانه، ولو نوى مطلق الحج يقع عن الفرض ترجيحا لجانبه وهو الظاهر من حاله، لأن العاقل لا يتحمل المشاق العظيمة وإخراج الأموال إلا لإسقاط الفرض إذا كان عليه، وإن نوى التطوع وقع متطوعا إذ لا دلالة مع التصريح ‏(‏ثم يلبي عقيب صلاته‏)‏ وإن شاء إذا استوت به راحلته والأول أفضل‏.‏ ‏(‏والتلبية‏:‏ لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك‏)‏ وكسر إن أصوب ليقع ابتداء ويرفع صوته بالتلبية‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أفضل الحج العج والثج»‏.‏ فالعج‏:‏ رفع الصوت بالتلبية‏:‏ والثج‏:‏ إسالة دم الذبائح، ولا يخل بشيء من هذه الكلمات لأنها منقولة باتفاق الرواة، وإن زاد جاز بأن يقول‏:‏ لبيك وسعديك والخير كله في يديك لبيك إله الخلق غفار الذنوب إلى غير ذلك مما جاء عن الصحابة والتابعين وهي مرة شرط والزيادة سنة، ويكون بتركها مسيئا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا نوى ولبى فقد أحرم‏)‏ لأنه أتى بالنية والذكر كما في الصلاة فيدخل في الإحرام ‏(‏فليتق الرفث والفسوق والجدال‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ والمراد النهي عن هذه الأشياء نقلا وإجماعا‏:‏ فالرفث‏:‏ الجماع، وقيل‏:‏ دواعيه، وقيل‏:‏ ذكر الجماع بحضرة النساء، وقيل‏:‏ الكلام القبيح؛ والفسوق‏:‏ المعاصي وهي حرام وفي الإحرام أشد؛ والجدال‏:‏ المخاصمة مع الرقيق والجمال وغيرهما‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يلبس قميصا ولا سراويل ولا عمامة ولا قلنسوة ولا قباء ولا خفين‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يلبس المحرم هذه الأشياء، فإن لم يجد إزارا فتق سراويله فاتزر به، وإن لم يحد رداء شق قميصه فارتدى به، وإن لم يجد نعلين يقطع الخفين أسفل الكعبين، لأن هذه الأشياء تخرج عن لبس المخيط وهو الذي يقدر عليه والتكليف بحسب الطاقة‏.‏ وقد قال عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث‏:‏ «إلا أن لا يجد النعلين فيقطع الخفين أسفل من الكعبين»‏.‏

وإن ألقى على كتفيه قباء جاز، ما لم يدخل يديه في كميه لأنه حامل لا لابس‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يحلق شيئا من شعر رأسه وجسده‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ولأن فيه إزالة الشعث، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحاج الشعث التفل»‏.‏ الشعث‏:‏ الانتشار، ومراده انتشار شعر الحاج فلا يجمعه بالتسريح والدهن والتغطية ونحوه، والتفل بالسكون‏:‏ الرائحة الكريهة، والتفل‏:‏ الذي ترك استعمال الطيب فيكره رائحته، والمحرم كذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يلبس ثوبا معصفرا ونحوه‏)‏ لأنه طيب حتى لو كان غسيلا لا تفوح رائحته لا بأس به ‏(‏ولا يغطي رأسه‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إحرام الرجل في رأسه‏)‏ ‏(‏ولا وجهه‏)‏ بطريق الأولى، ولأنه لما حرم على المرأة تغطية الوجه وفي كشفه فتنة كان الرجل بطريق الأولى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يتطيب، ولا يغسل رأسه ولا لحيته بالخطمي، ولا يدهن‏)‏ لأن في ذلك كله إزالة الشعث‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يقتل صيد البر، ولا يشير إليه، ولا يدل عليه‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 96‏]‏ ولما روي أن أبا قتادة صاد حمار وحش وهو حلال وأصحابه محرمون، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله فقال‏:‏ «هل أشرتم، هل دللتم»‏.‏ ‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ «إذا فكلوا» ولأن الإشارة والدلالة في معنى القتل لما فيه من إزالة الأمن عن الصيد فيتناوله النص كالردء والمعين في قتل بني آدم‏.‏

قال‏:‏ ولا القمل لأنه إزالة الشعث‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز له قتل البراغيث والبق والذباب والحية والعقرب والفأرة والذئب والغراب والحدأة، وسائر السباع إذا صالت عليه‏)‏ أما البراغيث والبق والذباب فلأنها ليست بصيد ولا متولدة منه، فليس قتلها إزالة الشعث، وتبتدئ بالأذى، وكذلك النمل والقراد لما ذكرنا‏.‏ وأما الحية والعقرب والفأرة والذئب والغراب والحدأة لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم‏:‏ الحدأة والحية والعقرب والفأرة والكلب العقور»‏.‏

وفي بعض الروايات زاد الغراب‏.‏ وذكر في رواية الذئب، قالوا‏:‏ وهو المراد بالكلب العقور إذ هو في معناه، والغراب هو الذي يأكل الجيف، ولأن هذه الأشياء تبدأ بالأذى‏.‏ وأما السباع إذا صالت فلأنه لما أذن الشرع في قتل الخمس الفواسق لاحتمال الأذى، فلأن يأذن في قتل ما تحقق منه الأذى كان أولى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يكسر بيض الصيد‏)‏ لأنه أصل الصيد ‏(‏ولا يقطع شجر الحرم‏)‏ للحديث ولأنه محظور على الحلال فالمحرم أولى ‏(‏ويجوز له صيد السمك‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحل لكم صيد البحر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 96‏]‏ الآية ‏(‏ويجوز له ذبح الإبل والبقر والغنم والدجاج والبط الأهلي‏)‏ لأنها ليست بصيود لإمكان أخذها من غير معالجة لكونها غير متوحشة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز له أن يغتسل ويدخل الحمام‏)‏ لأنه يحتاج إلى الاغتسال للجنابة وغيرها، وقد اغتسل عمر وهو محرم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويستظل بالبيت والمحمل‏)‏ لأنه لا يصل إلى رأسه فلا يتغطى وقد ضرب لعثمان الفسطاط وهو محرم ‏(‏ويشد في وسطه الهميان‏)‏ لأنه ليس بلبس وهو يحتاج إليه لحفظ النفقة، ‏(‏ويقاتل عدوه‏)‏ لما تقدم ‏(‏ويكثر من التلبية عقيب الصلوات، وكلما علا شرفا أو هبط واديا أو لقي ركبا وبالأسحار‏)‏ هو المأثور عن الصحابة‏.‏

فصل ‏[‏الابتداء بالمسجد عند دخول مكة‏]‏

‏(‏ولا يضره ليلا دخل مكة أو نهارا كغيرها من البلاد، فإذا دخلها ابتدأ بالمسجد‏)‏ لأن البيت فيه، والمقصود زيارته؛ ويستحب أن يدخل من باب بني شيبة اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم،ويستحب أن يقول عند دخولها‏:‏ اللهم هذا حرمك ومأمنك، قلت وقولك الحق‏:‏ ‏{‏ومن دخله كان آمنا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ اللهم فحرم لحمي ودمي على النار، وقني عذابك يوم تبعث عبادك، ويدخل المسجد حافيا إلا أن يستضر، ويقول عند دخوله‏:‏ بسم الله وعلى ملة رسول الله، الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام، اللهم افتح لي أبواب رحمتك ومغفرتك وأدخلني فيها، وأغلق عني معاصيك وجنبني العمل بها ‏(‏فإذا عاين البيت كبر وهلل‏)‏ ويستحب أن يقول‏:‏ الله أكبر الله أكبر، اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام وأدخلنا دار السلام؛ اللهم زد بيتك هذا تشريفا ومهابة وتعظيما، اللهم تقبل توبتي وأقلني عثرتي، واغفر لي خطيئتي يا حنان يا منان‏.‏ ‏(‏وابتدأ بالحجر الأسود فاستقبله وكبر‏)‏ هكذا فعل صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد ‏(‏ويرفع يديه كالصلاة‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن»‏.‏ وعد منها استلام الحجر ‏(‏ويقبله إن استطاع من غير أن يؤذي مسلما أو يستلمه‏)‏ وهو أن يلمسه بكفه أو يلمسه شيئا بيده ثم يقبله أو يحاذيه ‏(‏أو يشير إليه إن لم يقدر على الاستلام‏)‏ لأن التحرز عن أذى المسلم واجب، والتقبيل والاستلام سنة، والإتيان بالواجب أولى»‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم قبّل الحجر الأسود وقال لعمر‏:‏ إنك رجل أيد‏:‏ أي قوي، فلا تزاحم الناس على الحجر، ولكن إن وجدت فرجة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر»‏.‏ وروي «أنه عليه الصلاة والسلام طاف على راحلته، واستلم الأركان بمحجنه»‏.‏ ويستحب أن يقول عند استلام الحجر‏:‏ الله أكبر الله أكبر، اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لنبيك؛ أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله‏:‏ آمنت بالله وكفرت بالجبت والطاغوت‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ثم يطوف طواف القدوم‏)‏ ويسمى طواف التحية ‏(‏وهو سنة للأفاقي‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من أتى البيت فليحيه بالطواف»‏.‏ ولفظة التحية تنافي الوجوب، ولا قدوم لأهل مكة فلا يسن في حقهم؛ ويقول عند افتتاح الطواف‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، اللهم أعذني من أهوال يوم القيامة ‏(‏فيبدأ من الحجر إلى جهة باب الكعبة وقد اضطبع رداءه‏)‏ والاضطباع‏:‏ إخراج طرف الرداء من تحت الإبط الأيمن وإلقاؤه على عاتقه الأيسر ‏(‏فيطوف سبعة أشواط وراء الحطيم، يرمل في الثلاثة الأول، ثم يمشي على هينته ويستلم الحجر كلما مر به، ويختم الطواف بالاستلام‏)‏ هكذا نقل نسكه صلى الله عليه وسلم‏.‏ والحطيم‏:‏ موضع مبني دون البيت من الركن العراقي إلى الركن الشامي، سمي بذلك لأنه حطم من البيت‏:‏ أي كسر، وفيه نصب الميزاب، وهو الحجر لأنه حجر من البيت‏:‏ أي منع بينه وبين البيت فرجة من الجانبين، فلو دخل فيها في طوافه لم يجزه لأنه من البيت‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحطيم من البيت»‏.‏ فيعيد الطواف، فإن أعاده على الحطيم وحده أجزأه لأنه تم طوافه، والأولى أن يعيده على البيت أيضا ليؤديه على الوجه الأحسن والأكمل ويخرج به عن خلاف بعض الفقهاء‏.‏ والرمل هز الكتفين كالتبختر، وسببه إظهار الجلد للمشركين حيث قالوا عن الصحابة‏:‏ أوهنتهم حمى يثرب‏.‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «رحم الله امرءا أظهر من نفسه جلدا»‏.‏ وزال السبب وبقي الحكم إلى يومنا به التوارث؛ واستلام الحجر أول الطواف وآخره سنة، وما بقي بينهما أدب‏.‏

ويستحب أن يستلم الركن اليماني ولا يقبله‏.‏ وعن محمد أنه سنة ولا يقبل بقية الأركان، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يستلم الحجر والركن اليماني لا غير؛ ويستحب أن يقول إذا بلغ الركن العراقي‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من الشرك والكفر والنفاق وسوء الأخلاق‏.‏ وعند الميزاب‏:‏ اللهم اسقني بكأس نبيك محمد شربة لا أظمأ بعدها، وعند الركن الشامي‏:‏ اللهم اجعله حجا مبرورا، وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا، وتجارة لن تبور برحمتك يا عزيز يا غفور‏.‏

وعند الركن اليماني‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وفتنة المحيا والممات‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ثم يصلي ركعتين في مقام إبراهيم أو حيث تيسر له من المسجد‏)‏ وهي واجبة، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين»‏.‏ وقيل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏ إنه ركعتي الطواف، ويقول عقيبهما‏:‏ اللهم هذا مقام العائذ بك من النار، فاغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم‏.‏ ‏(‏ثم يستلم الحجر‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام استلمه بعد الركعتين‏.‏

قال‏:‏‏(‏ويخرج إلى الصفا‏)‏ من أي باب شاء، والأولى أن يخرج من باب بني مخزوم اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه أقرب إلى الصفا، وهو الذي يسمى اليوم باب الصفا ‏(‏فيصعد عليه، ويستقبل البيت ويكبر، ويرفع يديه ويهلل، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو بحاجته‏)‏ هكذا فعل صلى الله عليه وسلم، ولأن الدعاء عقيب الثناء والصلاة أقرب إلى الإجابة فيقدمان عليه ‏(‏ثم ينحط نحو المروة على هينته، فإذا بلغ الميل الأخضر سعى حتى يجاوز الميل الآخر ثم يمشي إلى المروة فيفعل كالصفا‏)‏ هكذا فعل عليه الصلاة والسلام ‏(‏وهذا شوط، يسعى سبعة أشواط‏)‏ كما وصفنا‏.‏ ‏(‏يبدأ بالصفا ويختم بالمروة‏)‏ فالمشي من الصفا إلى المروة شوط، والعود من المروة إلى الصفا آخر‏.‏ وذكر الطحاوي أن العود ليس بشوط، ويشترط البداءة في كل شوط بالصفا والختم به، والأول أصح لأنه المنقول المتوارث، ولئلا يتخلل بين كل شوطين ما لا يعتد به والأصل في العبادات الاتصال كالطواف وركعات الصلاة، ثم السعي بين الصفا والمروة واجب، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «كتب عليكم السعي فاسعوا»‏.‏ وأنه خبر آحاد فلا يوجب الركنية فقلنا بالوجوب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليه أن يطوف بهما‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏ ينفي الركنية أيضا والأفضل ترك السعي حتى يأتي به عقيب طواف الزيارة لأن السعي واجب، وإنما شرع مرة واحدة، وطواف القدوم سنة، ولا يجعل الواجب تبعا للسنة، وإنما رخص في ذلك، لأن يوم النحر يوم اشتغال بالذبح والرمي وغيره، فربما لا يتفرغ للسعي؛ ويستحب أن يقول عند خروجه إلى الصفا‏:‏ باسم الله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك وأدخلني فيها؛ ويقول على الصفا‏:‏ الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله أهل التكبير والتحميد والتهليل، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فله الملك وله الحمد، ويسأل حوائجه؛ فإذا نزل من الصفا قال‏:‏ اللهم يسر لي اليسرى، وجنبني العسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى؛ ويقول في السعي‏:‏ رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم، ويستكثر من قول‏:‏ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ ويقول على المروة مثل الصفا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ثم يقيم بمكة حراما يطوف بالبيت ما شاء‏)‏ لأنه عبادة وهو أفضل من الصلاة، وخصوصا للأفاقي، ويصلي لكل طواف ركعتين، ولا يسعى بعده لما بينا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ثم يخرج غداة التروية‏)‏ وهو ثامن ذي الحجة ‏(‏إلى منى‏)‏ فينزل بقرب مسجد الخيف ‏(‏فيبيت بها حتى يصلي الفجر يوم عرفة‏)‏ فيصلي بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، هكذا فعل جبريل بإبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام وهو المنقول من نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه البيتوتة سنة، ولو بات بمكة وصلى هذه الصلوات بها جاز، لأنه لا نسك بمنى هذا اليوم، وقد أساء لمخالفته السنة؛ ويقوله عند نزوله بمنى‏:‏ اللهم هذه منى، وهي مما مننت بها علينا من المناسك، فامنن عليّ بما مننت به على عبادك الصالحين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ثم يتوجه إلى عرفات‏)‏ اقتداء بفعله عليه الصلاة والسلام، ولأنه يحتاج إلى أداء فرض الوقوف بها في هذا اليوم وينزل بها حيث شاء ‏(‏فإذا زالت الشمس توضأ أو اغتسل‏)‏ لأنه يوم جمع فيستحب له الغسل، وقيل هو سنة ‏(‏فإن صلى مع الإمام صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين في وقت الظهر‏)‏ فقد تواتر النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجمع بينهما‏.‏ وروى جابر بأذان وإقامتين، وهو أن يؤذن ويقيم للظهر ثم يقيم للعصر لأنها تؤدى في غير وقتها فيقيم إعلاما لهم، لأنه لو لم يقم ربما ظنوا أنه يتطوع فلا يشرعون مع الإمام، ولا يتطوع بين الصلاتين لأن العصر إنما قدمت ليتفرغ إلى الوقوف، فالتطوع بينهما يخل به‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن صلى وحده صلى كل واحدة في وقتها‏)‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ يجمع بينهما المنفرد، لأن جوازه ليتفرغ للوقوف ويمتد وقته والكل في ذلك سواء‏.‏ ولأبي حنيفة أن تقديم العصر على خلاف الأصل، لأن الأصل أداء كل صلاة في وقتها، لكن خالفناه فيما ورد به الشرع، وهو الإمام في الصلاتين، والإحرام بالحج قبل الزوال، وفيما عداه بقي على الأصل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ثم يقف راكبا رافعا يديه بسطا يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على نبيه عليه الصلاة والسلام، ويسأل حوائجه‏)‏ والأفضل أن يتوجه عقيب صلاة العصر مع الإمام فيقف بالموقف مستقبل القبلة قريبا من جبل الرحمة، لأنه صلى الله عليه وسلم راح عقيب صلاة العصر إلى الموقف ووقف على راحلته مستقبل القبلة يدعو باسطا يديه كالمستطعم المسكين، رواه ابن عباس، ويقدم الثناء والحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وإن وقف قائما أو قاعدا جاز، والأول أفضل، ويلبي في الموقف ساعة بعد ساعة، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال يلبي حتى أتى جمرة العقبة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «عرفات كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة»‏.‏ ‏(‏ووقت الوقوف من زوال الشمس إلى طلوع الفجر الثاني من الغد‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام وقف بعد الزوال‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحج عرفة، فمن وقف بها ليلا أو نهارا فقد تم حجه، ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج، فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل»‏.‏ وإن وقف ساعة بعد الزوال ثم أفاض أجزأه، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من وقف ساعة بعرفة من ليل أو نهار فقد تم حجه»‏.‏ ولأن الركن أصل الوقوف وامتداده إلى غروب الشمس واجب، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «امكثوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم صلوات الله عليه»‏.‏ أمر بالمكث وأنه للوجوب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فمن فاته الوقوف‏)‏ في هذا الوقت ‏(‏فقد فاته الحج فيطوف ويسعى ويتحلل من الإحرام ويقضي الحج‏)‏ لما روينا‏.‏ واعلم أن الأحاديث كثيرة في فضيلة يوم عرفة وإجابة الدعاء فيه، فينبغي أن تجتهد فيه بالدعاء، وتدعو بكل دعاء تحفظه، وإن لم تقدر على الحفظ فاقرأ المكتوب؛ ويستحب أن يقرأ عقيب صلاته الفاتحة والإخلاص عشر مرات ويقول‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يا رفيع الدرجات، يا منزل البركات، يا فاطر الأرضين والسموات، ضجت لك الأصوات بصنوف اللغات، تسألك الحاجات، وحاجتي أن ترحمني في دار البلاء إذا نسيني أهل الدنيا، أسألك أن توفقني لما افترضت عليّ، وتعينني على طاعتك وأداء حقك وقضاء المناسك التي أريتها خليلك إبراهيم، ودللت عليها محمدا حبيبك؛ اللهم لكل متضرع إليك إجابة، ولكل مسكين لديك رأفة، وقد جئتك متضرعا إليك، مسكينا لديك، فاقض حاجتي، واغفر ذنوبي، ولا تجعلني من أخيب وفدك، وقد قلت وأنت لا تخلف الميعاد‏:‏‏)‏ ادعوني أستجب لكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وقد دعوتك متضرعا سائلا، فأجب دعائي وأعتقني من النار، ولوالدي ولجميع المسلمين والمسلمات برحمتك يا أرحم الراحمين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا غربت الشمس أفاض مع الإمام إلى المزدلفة‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن أهل الشرك كانوا يدفعون من عرفة إذا صارت الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال، وأنا أدفع بعد غروب الشمس مخالفة لهم»‏.‏ ويمشي على هينته، كذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، وقال‏:‏ «يا أيها الناس عليكم بالسكينة»‏.‏ ويستحب أن يقول عند غروبها قبل الإفاضة‏:‏ اللهم لا تجعله آخر العهد بهذا الموقف، وارزقنيه ما أبقيتني، واجعلني اليوم مفلحا مرحوما مستجابا دعائي، مغفورا ذنوبي يا أرحم الراحمين‏.‏ وينبغي أن يدفع مع الإمام ولا يتقدم عليه إلا إذا تأخر الإمام عن غروب الشمس، فيدفع الناس قبله لدخول الوقت، ولو مكث بعد الغروب وإفاضة الإمام قليلا خوف الزحمة جاز، هكذا فعلت عائشة؛ وينبغي أن يكثر من الاستغفار‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 199‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويأخذ الجمار من الطريق سبعين حصاة كالباقلاء ولا يصلي المغرب حتى يأتي المزدلفة فيصليها مع العشاء بأذان وإقامة‏)‏ أما تأخير المغرب فلحديث أسامة بن زيد قال‏:‏ كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى المزدلفة، فنزل بالشعب وقضى حاجته ولم يسبغ الوضوء، فقلت يا رسول الله الصلاة، فقال‏:‏ «الصلاة ليست هنا الصلاة أمامك»‏.‏ وأما الجمع بينهما بأذان وإقامة فلرواية جابر»‏.‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك»‏.‏ ولأن العشاء في وقتها فلا حاجة إلى الإعلام بوقتها بخلاف العصر يوم عرفة، ولا يتطوع بينهما لأنه يقطع الجمع، فإن تطوع أو اشتغل بشيء آخر أعاد الإقامة، لأنه انقطع حكم الإقامة الأولى، ولو صلى المغرب في الطريق أو بعرفة لم يجزه‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يجزيه لأنه صلاها في وقتها‏.‏ ولنا ما تقدم من حديث أسامة، ويقضيها ما لم يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر فلا قضاء، لأنه فات وقت الجمع، وينبغي أن ينزل بقرب الجبل الذي عليه الميقدة لأنه عليه الصلاة والسلام وقف هناك ‏(‏ويبيت بها‏)‏ وهي سنة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ثم يصلي الفجر بغلس‏)‏ كذا روى ابن مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام، وليتفرغ للوقوف والدعاء ‏(‏ثم يقف بالمشعر الحرام‏)‏ ويدعو ويجتهد في الدعاء كما مر بعرفة؛ ويستحب أن يقول إذا نزل بها‏:‏ اللهم هذه مزدلفة وجمع، أسألك أن ترزقني جوامع الخير، واجعلني ممن سألك فأعطيته ودعاك فأجبته، وتوكل عليك فكفيته، وآمن بك فهديته، وإذا فرغ من الصلاتين يقول‏:‏ اللهم حرم لحمي وشعري ودمي وعظمي وجميع جوارحي على النار يا أرحم الراحمين، ويسأل الله تعالى إرضاء الخصوم فإن الله تعالى وعد ذلك لمن طلبه في هذه الليلة؛ ويستحب أن يقف بعد صلاة الفجر مع الإمام ويدعو، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذكروا الله عند المشعر الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏ ويستحب أن يكبر ويهلل ويلبي ويقول‏:‏ اللهم أنت خير مطلوب وخير مرغوب إليه، إلهي لكل وفد جائزة وقرى فاجعل اللهم جائزتي وقراي في هذا المقام أن تتقبل توبتي وتتجاوز عن خطيئتي، وتجمع على الهدى أمري، وتجعل اليقين من الدنيا همي، اللهم ارحمني وأجرني من النار، وأوسع عليّ الرزق الحلال، اللهم لا تجعله آخر العهد بهذا الموقف، وارزقنيه أبدا ما أحييتني برحمتك يا أرحم الراحمين‏.‏ ‏(‏والمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «المزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر» قال‏:‏ ‏(‏ثم يتوجه إلى منى قبل طلوع الشمس‏)‏ كذا فعل صلى الله عليه وسلم، ويمشي بالسكينة، فإذا بلغ بطن محسر أسرع مقدار رمية حجر ماشيا كان أو راكبا، هكذا فعله عليه الصلاة والسلام ‏(‏ف‏)‏ إذا وصل إلى منى ‏(‏يبتدئ بجمرة العقبة يرميها بسبع حصيات من بطن الوادي يكبر مع كل حصاة ولا يقف عندها، ويقطع التلبية مع أول حصاة‏)‏ لما روى جابر‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى منى لم يعرج إلى شيء حتى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، وقطع التلبية عند أول حصاة رماها، وكبر مع كل حصاة، ثم نحر، ثم حلق رأسه، ثم أتى مكة فطاف بالبيت»‏.‏ ويرمي من بطن الوادي من أسفل إلى أعلى، ويجعل منى عن يمينه والكعبة عن يساره، ويقف حيث يرى موضع الحصاة، هكذا نقل عنه عليه الصلاة والسلام وهو مثل حصى الخذف‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام للفضل بن العباس غداة يوم النحر‏:‏ «ائتني بسبع حصيات مثل حصى الخذف، فأتاه بهن، فجعل يقلبهن ويقول‏:‏ بمثلهن بمثلهن لا تغلو»‏.‏ والخذف‏:‏ أن يضع الحصاة على رأس السبابة، ويضع إبهامه عليها ثم يرمي بها‏.‏

واختلفوا في مقدارها، والمختار قدر الباقلاء، ولو رمى بحجر أكبر أو أصغر جاز لحصول الرمي، ويقول عند الرمي‏:‏ بسم الله والله أكبر رغما للشيطان وحزبه؛ ويجوز الرمي بكل ما كان من جنس الأرض، ولا يجوز بما ليس من جنسها، ومن أي موضع أخذه جاز إلا الحصاة المرمي بها فإنه يكره لأنها حصى من لم يقبل حجه، فقد جاء في الحديث‏:‏ «ومن قبل حجه رفع حصاه»‏.‏ ولأنه رمى به مرة فأشبه الماء المستعمل، وكيف ما رمى جاز، وعدد حصى الجمار سبعون‏:‏ جمرة العقبة يوم النحر سبعة، وثلاثة أيام منى كل يوم ثلاث جمرات بإحدى وعشرين؛ وقد استحب بعضهم غسل الحصى ليكون طاهرا بيقين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ثم يذبح إن شاء‏)‏ لأنه مسافر وهو مفرد ولا وجوب عليه ‏(‏ثم يقصر أو يحلق وهو أفضل‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نرمي ثم نذبح ثم نحلق»‏.‏ ولأن الحلق من محظورات الإحرام فيؤخر عن الذبح، والحلق أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يغفر الله للمحلقين»‏.‏ ، قيل‏:‏ يا رسول الله وللمقصرين، فقال‏:‏ «يغفر الله للمحلقين»‏.‏ ، قالها ثلاثا، ثم قال‏:‏ «وللمقصرين»‏.‏ وإن لم يكن على رأسه شعر أجرى الموسى على رأسه تشبيها بالحلق كالتشبيه بالصوم عند العجز عن الصوم؛ والسنة حلق الجميع فإن نقص من ذلك فقد أساء لمخالفة السنة، ولا يجوز أقل من الربع ونظيره مسح الرأس في الوضوء في الاختلاف والدلائل، والتقصير‏:‏ أن يأخذ من رؤوس شعره وأقله مقدار الأنملة، ويستحب أن يدفن الشعر‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 26‏]‏ ويستحب أن يقول عند الحلق‏:‏ اللهم هذه ناصيتي بيدك، فاجعل لي بكل شعرة نورا يوم القيامة يا أرحم الراحمين‏.‏ ‏(‏وحل له كل شيء إلا النساء‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام فيه‏:‏ «حل له كل شيء إلا النساء» قال‏:‏ ‏(‏ثم يمشي إلى مكة فيطوف طواف الزيارة من يومه أو من غده أو بعده، وهو ركن إن تركه أو أربعة أشواط منه بقي محرما حتى يطوفها‏.‏ وصفته‏:‏ أن يطوف بالبيت سبعة أشواط لا رمل فيها ولا سعي بعدها، وإن لم يكن طاف للقدوم رمل وسعى وحل له النساء‏)‏ ويسمى أيضا طواف الإفاضة، والأفضل أن يطوفه أول أيام النحر، لأنه عليه الصلاة والسلام لما رمى جمرة العقبة ذبح وحلق ومشى إلى مكة فطاف للزيارة ثم عاد إلى منى فصلى بها الظهر، ووقت الطواف أيام النحر‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏ جعل وقتهما واحدا، فلو أخره عنها لزمه شاة، وكذا إذا أخر الحلق عنها أو أخر الرمي‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ لا يلزمه لأنه استدرك ما فاته؛ وله حديث ابن مسعود‏:‏ «من قدم نسكا على نسك فعليه دم»‏.‏ ولأن ما هو مؤقت بالمكان وهو الإحرام يجب بتأخيره عنه دم، فكذا ما هو مؤقت بالزمان وهو ركن لأنه المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليطوفوا‏}‏ فكان فرضا، فإن تركه أو أربعة أشواط منه بقي محرما حتى يطوفها‏.‏ أما إذا تركه فلما بينا أنه ركن‏.‏ وأما إذا ترك أربعة أشواط فهو الأكثر، وللأكثر حكم الكل، فكأنه لم يطف أصلا، ولا رمل فيه ولا سعى بعده إن كان أتى بهما في طواف القدوم لأنهما شرعا مرة واحدة، وإن لم يكن فعلهما أتى بهما في هذا الطواف وقد بيناه، وحل له النساء لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا طفتم بالبيت حللن لكم»‏.‏ ولأنه أتى بما عليه من فرائض الحج التي عقد لها الإحرام، ويطوف على قدميه حتى لو طاف راكبا أو محمولا لغير عذر أعاد ما دام بمكة‏.‏ وإن خرج من غير إعادة فعليه دم، وإن كان بعذر فلا شيء عليه وما روي «أنه عليه الصلاة والسلام طاف راكبا»‏.‏ محمول على العذر حالة الكبر وكذا التيامن واجب، وهو أن يأخذ في الطواف عن يمينه من باب الكعبة حتى لو طاف منكوسا أو أكثره أعاد ما دام بمكة، فإن لم يعد فعليه دم، فإذا طاف للزيارة عاد إلى منى فبات بها لياليها، والمبيت بها سنة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏فإذا كان اليوم الثاني من أيام النحر‏)‏ وهو حادي عشر الشهر ويسمى يوم القر لأنهم يقرون فيه بمنى ‏(‏رمى الجمار الثلاث بعد الزوال‏)‏ يبتدئ بالتي تلي مسجد الخيف ‏(‏يرميها بسبع حصيات ثم يقف عندها مع الناس مستقبل الكعبة‏)‏ يرفع يديه حذاء منكبيه بسطا يذكر الله تعالى ويثني عليه ويهلل ويكبر ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو الله بحاجته‏.‏

وعن أبي يوسف أنه يقول‏:‏ اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا، اللهم إليك أفضت، ومن عذابك أشفقت، وإليك رغبت ومنك رهبت، فاقبل نسكي وعظم أجري وارحم تضرعي واقبل توبتي واستجب دعوتي وأعطني سؤلي، ثم يأتي الجمرة الوسطى فيفعل كذلك، ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها ولا يقف عندها، ولو لم يقف عند الجمرتين لا شيء عليه لأنه للدعاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وكذلك يرميها في اليوم الثالث من أيام النحر بعد الزوال‏)‏ كما وصفنا ‏(‏وكذلك في اليوم الرابع إن أقام‏)‏ وجميع ما ذكرنا من صفة الرمي والوقوف والدعاء مروي في حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن نفر إلى مكة في اليوم الثالث سقط عنه رمي اليوم الرابع‏)‏ ولا شيء عليه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 203‏]‏ والأفضل أن يقف حتى يرمي اليوم الرابع لأنه أتم لنسكه، فلو رماها في اليوم الرابع قبل الزوال جاز‏.‏ وقالا‏:‏ لا يجوز لأن وقته بعد الزوال كما في اليومين الأولين، وهو مروي عن عمر رضي الله عنه‏.‏ ولأبي حنيفة أنه لما جاز ترك الرمي أصلا فلأن يجوز تقديمه أولى، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا انفرد إلى مكة نزل بالأبطح ولو ساعة‏)‏ وهو المحصب وهو سنة، لأنه عليه الصلاة والسلام نزل به قصدا وهو نسك، كذا روي عن عمر رضي الله عنه ‏(‏ثم يدخل مكة ويقيم بها‏)‏ ويكثر فيها من أفعال الخير كالطواف والصلاة والصدقة والتلاوة وذكر الله تعالى، ويجتنب إنشاد الشعر وحديث الفحش وما لا يعنيه، ففي الحديث النبوي»‏.‏ أن الحسنة فيه تضاعف إلى مائة ألف وكذلك السيئة»‏.‏ ولهذا كره أبو حنيفة المجاورة خوفا من الوقوع فيما لا يجوز فيتضاعف عليه العقاب بتضاعف السيئات حتى لو كان ممن يثق من نفسه ويملكها عما لا ينبغي من الأفعال والأقوال، فالمجاورة أفضل بالإجماع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا أراد العود إلى أهله طاف طواف الصدر‏)‏ ويسمى طواف الوداع لأنه يصدر عن البيت ويودعه، ‏(‏وهو سبعة أشواط لا رمل فيها ولا سعي‏)‏ لما بينا ‏(‏وهو واجب على الأفاقي‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف»‏.‏ بخلاف المكي فإنه لا يصدر عنه ولا يودعه‏.‏ ‏(‏ثم يأتي زمزم يستقي بنفسه ويشرب إن قدر‏)‏ فهو أفضل لما روي أنه عليه الصلاة والسلام أتى زمزم ونزع بنفسه دلوا فشرب ثم أفرغ ماء الدلو عليه ويستحب أن يتنفس في الشرب ثلاث مرات، وينظر إلى البيت في كل مرة ويقول‏:‏ بسم الله، والحمد لله، والصلاة على رسول الله؛ ويقول في المرة الأخيرة‏:‏ اللهم إني أسألك رزقا واسعا، وعلما نافعا، وشفاء من كل داء وسقم يا أرحم الراحمين؛ ثم يمسح به وجهه ورأسه، ويصب عليه إن تيسر له ‏(‏ثم يأتي باب الكعبة ويقبل العتبة‏)‏ لما فيه من زيادة التضرع ‏(‏ثم يأتي الملتزم‏)‏ وهو بين الباب والحجر الأسود ‏(‏فيلصق بطنه بالبيت ويضع خده الأيمن عليه ويتشبث بأستار الكعبة‏)‏ كالمتعلق بطرف ثوب مولاه يستغيثه في أمر عظيم ‏(‏ويجتهد في الدعاء‏)‏ فإنه موضع إجابة الدعاء جاء به الأثر ‏(‏ويبكي‏)‏ أو يتباكى فإنه من علامات القبول‏.‏ ‏(‏ويرجع القهقهرى حتى يخرج من المسجد‏)‏ ليكون نظره إلى الكعبة؛ ويستحب أن يقول عند الوداع‏:‏ اللهم هذا بيتك الذي جعلته مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، اللهم فكما هديتنا لذلك فتقبله منا ولا تجعله آخر العهد من بيتك الحرام وارزقني العود إليه حتى ترضى عني برحمتك يا أرحم الراحمين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا لم يدخل المحرم مكة وتوجه إلى عرفة وقف بها‏)‏ على الوجه الذي بيناه ‏(‏سقط عنه طواف القدوم‏)‏ لأنه شرع في أفعال الحج، فيجب عليه الإتيان بسائر أفعاله على وجه الترتيب، ولا دم عليه لأنه سنة فلا يجب بتركها شيء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن اجتاز بعرفة نائما أو مغمى عليه أو لا يعلم بها أجزأه عن الوقوف‏)‏ لوجود الركن وهو الوقوف، ولإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من وقف بعرفة فقد تم حجه»‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمرأة كالرجل‏)‏ لأن النص يعمهما ‏(‏إلا أنها تكشف وجهها دون رأسها‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إحرام المرأة في وجهها»‏.‏ ‏(‏ولا ترفع صوتها بالتلبية‏)‏ خوفا من الفتنة ‏(‏ولا ترمل ولا تسعى‏)‏ لأن مبنى أمرها على الستر، وفي ذلك احتمال الكشف ‏(‏وتقصر ولا تحلق‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى النساء عن الحلق وأمرهن بالتقصير ‏(‏وتلبس المخيط‏)‏ لأن في تركه خوف كشف العورة ‏(‏ولا تستلم الحجر إذا كان هناك رجال‏)‏ لأنها ممنوعة من مماستهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو حاضت عند الإحرام اغتسلت وأحرمت‏)‏ لما مر في الرجل ‏(‏إلا أنها لا تطوف‏)‏ لأن الطواف في المسجد وهي ممنوعة من دخول المسجد ‏(‏وإن حاضت بعد الوقوف وطواف الزيارة عادت ولا شيء عليها لطواف الصدر‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام رخص للحيض في طواف الصدر‏.‏

فصل ‏[‏حكم العمرة‏]‏

‏(‏العمرة سنة‏)‏ وينبغي أن يأتي بها عقيب الفراغ من أفعال الحج، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏«تابعوا بين الحج والعمرة، فإنه يزيد في العمر والرزق، وينفيان الذنوب كما نفى الكير خبث الحديد» وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحج جهاد والعمرة تطوع»‏.‏ وأنه نص في الباب، والآية محمولة على وجوب الإتمام، وذلك يكون بعد الشروع، ونحن نقول بوجوب الإتمام بعد الشروع، ولا حجة فيها على الوجوب ابتداء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهي‏:‏ الإحرام والطواف والسعي ثم يحلق أو يقصر‏)‏ للتحليل، هكذا فعله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ‏(‏وهي جائزة في جميع السنة‏)‏ لأنها غير مؤقتة بوقت ‏(‏وتكره يومي عرفة والنحر وأيام التشريق‏)‏ منقول عن عائشة، والظاهر أنه سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن عليه في هذه الأيام باقي أفعال الحج، فلو اشتغل بالعمرة ربما اشتغل عنها فتفوت، ولو أداها فيها جاز مع الكراهة كصلاة التطوع في الأوقات الخمسة المكروهة ‏(‏ويقطع التلبية في أول الطواف‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام قطعها لما استلم الحجر، والله أعلم‏.‏

باب التمتع

وهو الجمع بين أفعال العمرة والحج في أشهر الحج في سنة واحدة بإحرامين بتقديم أفعال العمرة من غير أن يلمّ بأهله إلماما صحيحا، حتى لو أحرم قبل أشهر الحج وأتى بأفعال العمرة في أشهر الحج كان متمتعا، ولو طاف طواف العمرة قبل أشهر الحج أو أكثره لم يكن متمتعا، والإلمام الصحيح أن يعود إلى أهله بعد أفعال العمرة حلالا ‏(‏وهو أفضل من الإفراد‏)‏ وعن أبي حنيفة أن الإفراد أفضل، لأن المفرد يقع سفره للحج والمتمتع للعمرة، وجه الظاهر أن سفر المتمتع يقع للحج أيضا، وتخلل العمرة بينهما لا يمنع وقوعه للحج كتخلل التنفل بين السعي والجمعة، ولأن المتمتع يجمع بين نسكين من غير أن يلم بأهله حلالا، ويجب فيه الدم شكرا لله تعالى، ولا كذلك المفرد‏.‏ ‏(‏وصفته‏:‏ أن يحرم بعمرة في أشهر الحج، ويطوف ويسعى‏)‏ كما بينا ‏(‏ويحلق أو يقصر، وقد حل‏)‏ فهذه أفعال العمرة على ما بينا ‏(‏ثم يحرم بالحج يوم التروية، وقبله أفضل‏)‏ يعني من الحرم لأنه في معنى المكي ‏(‏ويفعل كالمفرد‏)‏ في طواف الزيارة ‏(‏ويرمل ويسعى‏)‏ لأنه أول طواف أتى به ‏(‏وعليه دم التمتع‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ‏(‏فإن لم يجد صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ والمراد وقت الحج ‏(‏ولوصامها قبل ذلك وهو محرم جاز‏)‏ لأنها في وقت الحج‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وسبعة إذا فرغ من أفعال الحج‏)‏ يعني بعد أيام التشريق، لأنه المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا رجعتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ لأنه سبب للرجوع إلى الأهل‏.‏ وقيل‏:‏ المراد إذا رجعتم من أفعال الحج فقد صام بعد السبب فيجوز، ولو قدر على الهدي قبل صوم الثلاثة أو بعده قبل يوم النحر لزمه الهدي وبطل صومه، لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل وهو التحلل، وإن قدر عليه بعد الحلق قبل صوم السبعة لأهدى عليه لحصول المقصود بالبدل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن لم يصم الثلاثة لم يجزه إلا الدم‏)‏ كذا روي عن عمر وابنه وابن عباس رضي الله عنهم، ولا تقضى لأنها بدل ولا بدل للبدل، ولأن الأبدال لا تنصب قياسا، ولا يجوز صومها أيام النحر لأنها وجبت كاملة، فلا تتأدى بالناقص، وإذا لم يصم الثلاثة لم يصم السبعة، لأن العشر وجبت بدلا عن التحلل، وقد فاتح بفوات البعض فيجب الهدي، فإن لم يقدر على الهدي تحلل وعليه دمان‏:‏ دم التمتع، ودم لتحلله قبل الهدي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن شاء أن يسوق الهدي أحرم بالعمرة وساق وفعل ما ذكرنا وهو أفضل‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام فعل كذلك، ولما فيه من المسارعة وزيادة المشقة، فإن ساق بدنة قلدها بمزادة أو نعل، لأنه عليه الصلاة والسلام قلد هداياه، والإشعار مكروه عند أبي حنيفة حسن عندهما‏.‏ وصفته‏:‏ أن يشق سنامها من الجانب الأيمن، لهما ما روي أنه عليه الصلاة والسلام فعل كذلك، وكذا روي عن الصحابة‏.‏ ولأبي حنيفة أنه مثلة فيكون منسوخا لتأخير المحرم؛ وقيل إنما كره أبو حنيفة الإشعار إذا جاوز الحد في الجرح، وفعله عليه الصلاة والسلام كان لأن المشركين كانوا لا يمتنعون عن التعرض له إلا بالإشعار، أما اليوم فلا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يتحلل من عمرته‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من لم يسق الهدي فليحل وليجعلها عمرة، ومن ساق فلا يحل حتى ينحر معنا»‏.‏ روته حفصة رضي الله عنها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويحرم بالحج‏)‏ كما تقدم ‏(‏فإذا حلق يوم النحر حل من الإحرامين‏)‏ لأنه محلل فيتحلل به عنهما ‏(‏وذبح دم التمتع‏)‏ لما مر ‏(‏وليس لأهل مكة ومن كان داخل الميقات تمتع ولا قران‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ولو خرج المكي إلى الكوفة وقرن صح ولا يكون له تمتع، لأنه إذا تحلل من العمرة صار مكيا، فيكون حجه من وطنه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن عاد المتمتع إلى أهله بعد العمرة ولم يكن ساق الهدي بطل تمتعه‏)‏ لأنه ألمّ بأهله إلماما صحيحا فانقطع حكم السفر الأول ‏(‏وإن ساق لم يبطل‏)‏ وقال محمد‏:‏ يبطل أيضا لأنه أتى بالحج والعمرة في سفرتين حقيقة، ولهما أنه لم يصح إلمامه لبقاء إحرامه، فكان حكم السفر الأول باقيا، وصار كأنه بمكة فقد أتى بهما في سفر واحد حكما‏.‏

باب القران

وهو الجمع بين العمرة والحج بإحرام واحد في سفرة واحدة ‏(‏وهو أفضل من التمتع‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أتاني آت من ربي وأنا بالعقيق فقال‏:‏ صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل‏:‏ لبيك بحجة وعمرة معا» وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا»‏.‏ ولأنه أشق لكونه أدوم إحراما وأسرع إلى العبادة وفيه جمع بين النسكين ‏(‏وصفته‏:‏ أن يهل بالحج والعمرة معا من الميقات‏)‏ لأن القران ينبئ عن الجمع ‏(‏ويقول‏:‏ اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني‏)‏ لما تقدم، وكذا إذا أدخل حجة على عمرة قبل أن يطوف لها أربعة أشواط لتحقق الجمع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا دخل مكة طاف للعمرة وسعى‏)‏ على ما بيناه ‏(‏ثم يشرع في أفعال الحج فيطوف للقدوم‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تمتع بالعمرة إلى الحج‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ جعل الحج نهاية للعمرة، والترتيب إن فات في الإحرام لم يفت في حق الأفعال، فيأتي بأفعال الحج كما بينا في المفرد، ولا يحلق بعد أفعال العمرة لأنه جناية على إحرام الحج، ويحلق يوم النحر كالمفرد ‏(‏فإذا رمى جمرة العقبة يوم النحر ذبح دم القران، فإن لم يجد صام كالمتمتع‏)‏ وقد بيناه، وإن طاف القارن طوافين وسعى سعيين أجزأه، لأنه أدى ما عليه وقد أساء لمخالفته السنة، ولا شيء عليه لأن طواف القدوم سنة وتركه لا يوجب شيئا، فتقدمه على السعي أولى، وتأخير السعي بالاشتغال بعمل آخر لا يوجب الدم، فكذا الاشتغال بالطواف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا لم يدخل القارن مكة وتوجه إلى عرفات ووقف بها بطل قرانه‏)‏ لأنه عجز عن تقديم أفعال العمرة كما هو المشروع في القران، ولا يصير رافضا بالتوجه حتى يقف هو الأصح عند أبي حنيفة بخلاف مصلى الظهر يوم الجمعة حيث تبطل بمجرد السعي لأنه مأمور ثم بالسعي بعد الظهر، وههنا هو منهي عن التوجه إلى عرفة قبل أداء العمرة فافترقا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وسقط عنه دم القران‏)‏ لأنه لم يوفق لأداء النسكين ‏(‏وعليه دم لرفضها‏)‏ لأنه رفض إحرامه قبل أداء أفعال المتعة ‏(‏وعليه قضاء العمرة‏)‏ لشروعه فيها‏.‏

باب الجنايات

‏(‏إذا طيب المحرم عضوا فعليه شاة‏)‏ لأن الطيب من محظورات الإحرام لا يعرف فيه خلاف، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحاج الشعث التفل»‏.‏ وهو الذي ترك الطيب من التفل وهو الرائحة الكريهة‏.‏ وروي «المحرم أشعث أغبر»‏.‏ وقد نهى عليه الصلاة والسلام أن يلبس المحرم من الثياب ما مسه ورس أو زعفران، فما ظنك بما فوقه من الطيب‏؟‏ وقال عليه الصلاة والسلام في حديث المعتدة‏:‏ «الحناء طيب»‏.‏ فإذا تطيب فقد جنى على إحرامه فتلزمه الكفارة، فإن طيّب عضوا كاملا كالرأس والساق ونحوهما فقد حصل الارتفاق الكامل فتجب شاة، وما دون العضو الجناية قاصرة فتجب صدقة وهي مقدرة بنصف صاع بر لأنه أقل صدقة وجبت شرعا كالفداء والكفارة وصدقة الفطر ونحوها، وكل ما له رائحة طيبة مستلذة، فهو طيب كالمسك والكافور والحناء والورس والزعفران والعود والغالية والخيري والبنفسج ونحوها، وكذا الدهن المطيب، وهو ما طبخ فيه الرياحين كالبنفسج والورد، والوسمة ليست بطيب، وأما الزيت والشيرج فطيب عند أبي حنيفة وفيه دم، لأنه أصل الطيب وفيهما إزالة الشعث، وعندهما فيه صدقة لأنه ليس له رائحة مستلذة إلا أن فيه إزالة بعض الشعث فتجب صدقة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن لبس المخيط أو غطى رأسه يوما فعليه شاة‏)‏ أيضا لأنهما من محظورات الإحرام أيضا لما بينا، فإن كان يوما كاملا فهو ارتفاق كامل، لأن المعتاد أن يلبس الثوب يوما ثم ينزع فتجب شاة، وفيما دون ذلك صدقة لقصور الجناية وقد مر‏.‏ وعن أبي يوسف أنه اعتبر أكثر اليوم إقامة للأكثر مقام الكل‏.‏ وعن أبي حنيفة‏:‏ إذا غطى ربع رأسه فعليه شاة كالحلق، وأنه معتاد بعض الناس‏.‏ وعن أبي يوسف الأكثر لما تقدم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن حلق ربع رأسه فعليه شاة‏)‏ لأن فيه إزالة الشعث والتفل فكان جناية على الإحرام، ثم الربع قائم مقام الكل في الرأس وهو عادة بعض الناس فكان ارتفاقا كاملا فتجب شاة ‏(‏وكذلك موضع المحاجم‏)‏ لأنه مقصود بالحلق وفيه إزالة الشعث فيجب الدم، وقالا فيه صدقة لأنه حلق لغيره وهي الحجامة وليست من المحظورات فكذا هذا إلا أن فيه إزالة شيء من الشعث فتجب صدقة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وفي حلق الإبطين أو أحدهما أو الرقبة أو العانة شاة‏)‏ أيضا لأن كل ذلك ارتفاق كامل مقصود بالحلق، وهو عضو كامل فتجب شاة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو قص أظافر يديه ورجليه أو واحدة منها فعليه شاة‏)‏ أما الجميع فلأنه ارتفاق تام مقصود، وفيه إزالة الشعث فكان محظورا إحرامه فتجب شاة، وكذا أحد الأعضاء الأربعة لأنه ارتفاق كامل، وإنما يجب في الكل دم واحد لاتحاد الجنس، وهذا إذا قصها في مجلس واحد، فأما إذا كان في مجالس يجب بكل عضو دم‏.‏ وقال محمد‏:‏ يجب في الكل دم واحد لأنه عقوبة فتتداخل‏.‏ ولنا أن فيه معنى العبادة فلا تتداخل إلا عند اتحاد المجلس كسجدة التلاوة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو طاف للقدوم أو للصدر جنبا أو للزيارة محدثا فعليه شاة‏)‏ لأنه أدخل النقص في الركن وهو طواف الزيارة فتجب الشاة، وفي الطوافين وجبت الشاة في الجنابة إظهارا للتفاوت، وطواف القدوم وإن كان سنة فإنه يصير بالشروع واجبا، ولو طاف للعمرة جنبا أو محدثا فعليه شاة، لأنه ركن فيها، وإنما لا تجب البدنة لعدم الفرضية؛ والحائض كالجنب لاستوائهما في الحكم، ولو أعاد هذه الأطوفة على طهارة سقط الدم لأنه أتى بها على وجه المشروع فصارت جنايته متداركة فسقط الدم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن أفاض من عرفة قبل الإمام فعليه شاة‏)‏ إما لأن امتداد الوقوف إلى الغروب واجب لما تقدم، أو لأن متابعة الإمام واجبة وقد تركهما فتجب شاة ‏(‏فإن عاد إلى عرفة قبل الغروب وإفاضة الإمام سقط عند الدم‏)‏ لأنه استدرك ما فاته ‏(‏وإن عاد قبل الغروب بعدما أفاض الإمام أو بعد الغروب لم يسقط‏)‏ لأنه لم يستدرك ما فاته‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها، أو طواف الصدر أو أربعة منه، أو السعي أو الوقوف بالمزدلفة فعليه شاة‏)‏ أما الثلاثة من طواف الزيارة فلأنه قليل بالنسبة إلى الباقي فصار كالحدث بالنسبة إلى الجناية ‏(‏وإن طاف للزيارة وعورته مكشوفة أعاد ما دام بمكة، وإن لم يعد فعليه دم‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يطوفن بالبيت عريان»‏.‏ وإن كان على ثوبه نجاسة لا شيء عليه ويكره‏.‏

وأما ترك طواف الصدر أو أربعة منه فلتركه الواجب، وللأكثر حكم الكل، ويؤمر بالإعادة ما دام بمكة ويسقط الدم، وكذا السعي والوقوف بالمزدلفة لأنهما واجبان‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو ترك رمي الجمار كلها أو يوم واحد، أو جمرة العقبة يوم النحر فعليه شاة‏)‏ معناه أنه تركها حتى غربت الشمس من آخر أيام التشريق، لأنه ترك واجبا من جنس واحد، وإن لم تغرب الشمس يرميها على الترتيب، لكن يجب الدم لتأخيرها عنده، خلافا لهما على ما بينا، وترك رمي يوم واحد عبادة مقصودة، وكذا جمرة العقبة يوم النحر فتجب شاة ‏(‏وإن ترك أقلها تصدق لكل حصاة نصف صاع بر‏)‏ إلا أن يبلغ قيمته شاة فينقصه ما شاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن حلق أقل من ربع رأسه تصدق بنصف صاع بر‏)‏ لأن الربع مقصود معتاد عند بعض الناس كالسواد والبادية، فكان ارتفاقا كاملا، وما دونه ليس في معناه، فتجب الصدقة ‏(‏وكذا إن قص أقل من خمسة أظافر‏)‏ لأنه لا يحصل بذلك الزينة بل يشينه ويؤذيه إذا حك جسده، ويجب في كل ظفر نصف صاع بر، إلا أن يبلغ قيمة دم فينقص ما شاء ‏(‏وكذلك إن قص خمسة متفرقة‏)‏ وقال محمد‏:‏ عليه دم كما إذا كانت من يد واحدة‏.‏ ولنا أن الجناية تتكامل بالارتفاق الكامل وبالزينة، وهذا القص يشينه ويؤذيه كما بينا، والجناية إذا نقصت تجب الصدقة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو طاف للقدوم أو للصدر محدثا فكذلك‏)‏ إظهارا للتفاوت بين الحدث والجنابة، وذلك بإيجاب الصدقة، فكذا لو ترك ثلاثة أشواط من الصدر لنقصانه في كونه جناية عن الكل فتجب الصدقة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن طاف للزيارة جنبا فعليه بدنة، وكذلك الحائض‏)‏ لأنه لما وجب جبر نقصان الحدث بالشاة وجب جبر نقصان الجنابة بالبدنة، لأنها أعظم فتعظم العقوبة، وهو مروي عن ابن عباس، والأولى أن يعيده ليأتي به على أكمل الوجوه، فإن أعاد فلا شيء عليه، لأنه استدرك ما فاته في وقته‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن تطيب أو لبس حلق لعذر إن شاء ذبح شاة، وإن شاء تصدق بثلاثة أصوع من طعام على ستة مساكين، وإن شاء صام ثلاثة أيام‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ تقديره فحلق ففدية، وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرناه، ثم الصدقة والصوم يجزئ في أي مكان شاء لأنهما قربة في جميع الأماكن على جميع الفقراء‏.‏ وأما الذبح فلا يجوز إلا بالحرم، لأنه لم يعرف قربة إلا في زمان مخصوص أو مكان مخصوص وكذا كل دم وجب في الحج جناية أو نسكا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن جامع في أحد السبيلين قبل الوقوف بعرفة فسد حجه وعليه شاة، ويمضي في حجه ويقضيه‏)‏ وكذلك المرأة إن كانت محرمة‏.‏ أما فساد الحج فلوجود المنافي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا رفث‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ وهو الجماع‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المحرم إذا جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه وعليه شاة، ومثله لا يعرف إلا توقيفا، ولأن الوطء صادق إحراما غير متأكد حتى لا يلحقه الفوات فيفسد، بخلاف ما بعد الوقوف لأنه تأكد حتى لا يلحقه الفوات‏.‏ أما وجوب الشاة والمضي والقضاء فلما تقدم من حديث ابن عباس‏.‏»‏.‏ وسئل صلى الله عليه وسلم عمن جامع امرأته وهما محرمان‏؟‏ قال‏:‏ يريقان دما ويمضيان في حجتهما ويحجان من قابل» ‏(‏ولا يفارق امرأته إذا قضى الحج‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر المفارقة لما سئل عنها، ولو وجب لذكره كغيره تنبيها على الحكم، ولأن النكاح قائم، ولا موجب للمفارقة؛ أما قبل الإحرام فلأنه يحل له جماعها فلا معنى للمفارقة؛ وأما بعده فلأنهما إذا ذكرا ما وجدا من التعب وزيادة النفقة يحترزان عن ذلك أكثر من غيرهما، وكذا في موضع الجماع حتى لو خافا العود يستحب لهما المفارقة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن جامع بعد الوقوف لم يفسد حجه‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحج عرفة، فمن وقف بعرفة فقد تم حجه» قال‏:‏ ‏(‏وعليه بدنة‏)‏ منقول عن ابن عباس ولأنه لما لم يجب القضاء علمنا أنه شرع لجبر نقص تمكن في الحج، والنقصان في الجماع فاحش وجناية غليظة، فتغلظ الكفارة فتجب بدنة، بخلاف ما قبل الوقوف لأن الجابر ثم هو القضاء، وإنما وجبت الشاة لرفضه الإحرام قبل أوانه فافترقا، وإن جامع ثانيا بعد الوقوف عليه شاة، لأن الأول صادق إحراما متأكدا محترما، والثاني صادق إحراما منخرما منتهكا بالوطء فخفت الجناية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن جامع بعد الحلق، أو قبل، أو لمس بشهوة فعليه شاة‏)‏ لبقاء الإحرام في حق النساء، وسواء أنزل أو لم ينزل؛ وكذا إذا جامع فيما دون الفرج، وكذا إذا جامع بهيمة فأنزل، أو عبث بذكره فأنزل، لأنه قضاء الشهوة باللمس، ولا شيء عليه بالنظر وإن أنزل لأنه ليس في معنى الجماع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن جامع في العمرة قبل طواف أربعة أشواط فسدت‏)‏ لوجود المنافي ‏(‏ويمضي فيها ويقضيها‏)‏ لأنها لزمت بالإحرام كالحج ‏(‏وعليه شاة‏)‏ لوجود الجناية، وهو الارتفاق الكامل على إحرامه ‏(‏وإن جامع فيها بعد أربعة أشواط لم تفسد‏)‏ لوجود الأكثر ‏(‏وعليه شاة‏)‏ لأنها سنة، فتكون الجناية أنقص، فيظهر التفاوت في الكفارة؛ ولو جامع القارن قبل طواف العمرة فسدت عمرته وحجته لما تقدم، وعليه شاتان لجنايته على إحرامين؛ ولو جامع بعد طواف العمرة أو أكثره قبل الوقوف تمت عمرته وفسد حجه لما بينا؛ ولو جامع بعد الوقوف قبل الحلق فعليه بدنة للحج وشاة للعمرة كما لو انفردا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والعامد والناسي سواء‏)‏ لأن حالات الإحرام مذكرة كحالات الصلاة فلا يعذر النسيان، وكذلك إذا جومعت النائمة والمكرهة لوجود الارتفاق بالجماع‏.‏

فصل ‏[‏حكم الصيد أثناء الإحرام‏]‏

‏(‏إذا قتل المحرم صيدا أو دل عليه من قتله فعليه الجزاء‏)‏ والأصل في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 96‏]‏ والصيد‏:‏ هو الحيوان المتوحش في أصل الخلقة، الممتنع بجناحيه أو بقوائمه، إلا الخمس الفواسق المستثناة بالحديث فإنها تبدأ بالأذى، وقد تقدم الكلام فيها، وصيد البر ما كان توالده في البر‏.‏ أما الجزاء على القاتل فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ أوجب الجزاء على القاتل‏.‏ وأما الدال فلأنه فوّت على الصيد الأمن لأن بقاء حياة الصيد بأمنه، فإنه استحق الأمن إما بالإحرام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم حرم‏}‏ أو بدخوله الحرم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن دخله كان آمنا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ فإذا دل عليه فقد فوت الأمن المستحق عليه فيجب الجزاء كالمباشر، ولما روينا من حديث أبي قتادة‏.‏ والدلالة أن لا يكون المدلول عالما به، ويصدقه حتى لو كان عالما به، أو كذبه ودله آخر فصدقه فالجزاء على الثاني، ولو أعاره سكينا ليقتل الصيد إن كان معه سكين لا شيء عليه، لأنه يتمكن من قتله إلا بالإعارة، وإن لم يكن معه سكين فعلى المعير الجزاء، لأنه إنما تمكن من قتله بإعارته‏.‏ ‏(‏والمبتدئ والعائد والناسي والعامد سواء‏)‏ لوجود الجناية منهم وهو الموجب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والجزاء أن يقوّم الصيد عدلان في مكان الصيد، أو في أقرب المواضع منه، ثم إن شاء اشترى بالقيمة هديا فذبحه، وإن شاء طعاما فتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بر، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما، فإن فضل أقل من نصف صاع، إن شاء تصدق به، وإن شاء صام يوما‏)‏ والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أو عدل ذلك صياما‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏

والأصل في المثل أن يكون مماثلا صورة ومعنى، وأنه غير معتبر بالإجماع، ولا اعتبار للمثل صورة، لأن بعضه خرج عن الإرادة بالإجماع كالعصفور ونحوه، فلا يبقى الباقي مرادا لئلا يؤدي إلى الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد، فتعين أن يعتبر المثل معنى وهو القيمة كما فيما لا نظير له، وكما في حقوق العباد، وإذا كان المراد بالجزاء القيمة يقوّم العدلان اللحم لا الحيوان في مكان الصيد إن كان مما يباع فيه الصيود‏.‏ وإن لم يكن مما يباع فيه كالبرية ففي أقرب المواضع منه، ثم الخيار للقاتل إن شاء اشترى بالقيمة هديا، وهو ما تجوز به الأضحية إن بلغت قيمته ذلك، ويذبحه بمكة لما تقدم، وإن لم تبلغ ما تجوز به الأضحية لا يذبحه ويتصدق به؛ وقالا‏:‏ يذبحه لإطلاق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هديا بالغ الكعبة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ ولأنه يتقرب به في الجملة إذا ولدته الأضحية والهدي فإنه يذبح مع أمه‏.‏

ولأبي حنيفة أن القياس يأبى التقرب بالإراقة لكونه إيلام البري على ما عرف وإنما خالفناه في موارد النص وهي الأضحية والمتعة، ولا يجوز فيهما هذا فيبقى على الأصل وحيث جاز إنما جاز تبعا والكلام في جوازه أصلا، وإن شاء اشترى طعاما فأطعم كما ذكرنا كما في الفداء والكفارات، وإن شاء صام على ما وصفنا كما في الفداء، وإنما يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة كما في كفارة اليمين، وهو مذهب ابن عباس، وإنما يتخير القاتل لأن الخيار شرع رفقا به، وذلك إنما يحصل إذا كان التعيين إليه والخيار له، فإن فضل أقل من نصف صاع أو كان الواجب ذلك، إن شاء تصدق به لأنه كل الواجب، وإن شاء صام عنه يوما لعدم تجزي الصوم‏.‏ وقال محمد‏:‏ الواجب المثل من حيث الصورة والجثة، ففي الظبي والضبع شاة، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة، وفي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وما لا نظير له كالحمام والعصفور تجب القيمة كما قالا، له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏

والمثلية من حيث الصورة أولى، لأن القيمة ليست مثلا للنعم‏.‏ وعن جماعة من الصحابة إيجاب النظير من حيث الخلقة، وعنده الخيار إلى الحكمين، فإن حكما بالهدي يجب النظير، وإن حكما بالطعام أو بالصيام فكما قالا، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحكم به ذوا عدل منكم هديا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ نصب مفعول يحكم، وجوابه ما قلنا، ولأن الكفارة رفع عطف على الجزاء، وكذلك قوله‏:‏‏{‏أو عدل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ رفع، وإنما الحكمان يحكمان بالقيمة لأن الواجب لو كان النظير لما احتاج إلى تقويمها، فعلم أن، الحكمين إنما يحكمان بالقيمة ثم بالخيار إليه رفقا به كما بينا‏.‏ وإن قتل ما لا يؤكل من السباع ففيه الجزاء لأنه صيد فيتناوله إطلاق النص، ولا يتجاوز بقيمته شاة، لأن السبع وإن كبر لا يتجاوز قيمة لحمه قيمة لحم شاة، لأنه غير منتفع به شرعا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن جرح صيدا أو نتف شعره، أو قطع عضوا منه ضمن ما نقصه‏)‏ اعتبارا للبعض بالكل ‏(‏وإن نتف ريش طائر أو قطع قوائم صيد فعليه قيمته‏)‏ لأنه خرج به عن حيز الامتناع فقد فوّت عليه الأمن فصار كما إذا قتله، وكذلك كل فعل يخرج به عن حيّز الامتناع ‏(‏وإن كسر بيضته فعليه قيمتها‏)‏ لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بذلك، وكذا روي عن علي وابن عباس، ولو خرج منها فرخ ميت فعليه قيمته حيا، لأنه كان بعرضية الحياة وقد فوّتها فتجب قيمته احتياطا؛ وكذلك لو ضرب بطن ظبية فألقت جنينا ميتا فعليه قيمته لما بينا‏.‏ وشجر الحرم لا يحل قطعه لمحرم ولا حلال‏.‏

قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها»‏.‏ فصار كالصيد، وشجر الحرم ما ينبت بنفسه، أما إذا أنبته الناس أو كان من جنس ما ينبته الناس فلا بأس بقطعه وقلعه، لأن الناس اعتادوا الزراعة والحصد من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا من غير نكير‏.‏ وعن أبي يوسف‏:‏ لا بأس برعيه، لأن منع الدواب متعذر، وجوابه الحديث، ولأن القطع بالمشافر كالقطع بالمناجل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن قتل قملة أو جرادة تصدق بما شاء‏)‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ تمرة خير من جرادة، ولأن القملة من التفث حتى لو قتل قملة وجدها على الأرض لا شيء عليه، وكذلك القملتين والثلاث، وإن كثر أطعم نصف صاع لكثرة الارتفاق‏.‏ وعن أبي يوسف في القملة يتصدق بكف من طعام، وعن محمد بكسرة من خبز‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن ذبح المحرم صيدا فهو ميتة‏)‏ لأنه فعل حرام فلا يكون ذكاة ‏(‏وله أن يأكل ما اصطاده حلال إذا لم يعنه‏)‏ لما مر من حديث أبي قتادة ‏(‏وكل ما على المفرد فيه دم على القارن فيه دمان‏)‏ لأنه جناية على إحرامين‏.‏